عالي.. عالي.. عالي
الصوت العالي: أهلا وسلامات واتفضل والف مبروك وخطوة عزيزة وغيره وغيره, وسواء في العاطفة الراضية أو الانفعال الغاضب نحن نعمد الى رفع الصوت, فكلما كان الصوت اكثر ارتفاعا شعرنا ان الترجمة اكثر صدقا لمشاعرنا.
حتى الاعمال الشاقة التي نقوم بها في حماية لانجازها لابد ان نقرنها بالصوت العالي: هيلا هوب. هيلا هوب, ويامهون هونها يالله. وهيلا هيلا ع النبي صلي.. ثم لسبب يتعلق باختفاء مبيد الذباب نقول للذباب هش مع انه لا يسمع هـش ولانش, وحتى الـزوج يضطر احيانا الى الصراخ المتواصل دون ان تسمعـه زوجته لأن المـرأة لا تستعمل أذنيها إلا لتعليق الحلقان!
*******
... بلا جدران!
وبسبب الصوت العالي أصبحت بيوتنا بلا جدران, فمن العسير عليك مثلا في أوروبا ان تعرف ما يدور في مسكن الجار الملاصق لك, لكن زغرودة تنطلق من بيت عبد العزيز في أول الشارع الذي تسكن به, تعرف على أثرها ان الشاهد الوحيد في قضية رشوة عبد العزيز قد مات متأثرا بركوب قطار تصادم مع قطار
وتستطيع وأنت في فراشك ساعة القيلولة ان تعرف ان عبد الله- سادس جار- قد اوشك ان يتسلم سيارته النصر, اذ بدأ يتدرب على أهم مرحلة في قيادة السيارات فاشتري من وكالة البلح كلاكس وراح يتعلم الضرب عليه في شقته
ويمكنك وأنت في فراشك ان تتابع تطورات ماتش كورة دون تليفزيون في الغرفة او راديو, فأجهزة تليفزيون الجيران تقوم وحدها بكل العمل, ومنها تعرف اللحظة التي ظهرت فيها اعراض العبط على حكم المباراة, وتتابع صوت المعلق الرياضي وهو يصف الكرة وقد صدها حارس المرمي, وما تلبث ان تأسف لضعف نظر المعلق الرياضي الذي يقول: دلوقتي ح نعرف حالا اللي صدها الجول دي كورة ولاّ طوبة
وإذا انتهت المباراة, اتيح لك ان تقف على المناقشة المحتدمة في بيت خامس جار, اذ تسمعه وهو يحسم الامر بين اولاده فيقرر ان البلوزتين لماجدة, وقطعتي القماش لعايدة.. والقطعة الغامقة للام, والخلاط لاخته خديجة, والبنطلونات والقمصان لنبيل, على ان ينتظر ابنه الاخر مجدي لبكرة حتى يجد له بنطلونات وقمصان مقاسه, وهنا تسمع طلبات ملابس جديدة من ماجده وعايده ونبيل, فتشفق حقا على هذا الجار المسكين الذي يعمل موظفا في مخزن طرود المطار.
*******
اخونا شموخلر
والغريب ان الوافد على بلدنا لا يمكن ان يشعر بالوحدة ابدا فنحن معه دائما داخل مسكنه نؤنس وحدته بأصواتنا المترامية اليه من بيوتنا وشوارعنا, كذلك الخبير الالماني الهر شموخلر الذي كان يسكن العمار ة معنا ذات يوم, ففي اليوم التالي لسكنه طاف بشققنا مستأذنا في اقامة حفل استقبال بشقته, مستفسرا منا في ادب عما اذا كان يزعج احدا منا ان يستمر الحفل الى الحادية عشرة مساء؟ شوف الراجل اللي على نياته!
طبعا قلنا له انه يسعدنا ان يستمتع بمناسبته السعيدة أي وقت يشاء, فدهش الخبير الشاب لهذه السماحة المصرية وشكرنا كثيرا, وما ان انتهى الحفل في بيته حتى دوت مكبرات الصوت في فضاء المنطقة: الو الو.. محلات افراح المدينة.. واحد.. اثنين .. ثلاثة.. اربعة.. عشرة, وبدأ الفرح السعيد بأغنية العب ياسمك وأرقص بحنان, وكم ابدعت ولعلعت فيها الاسطى فايقة العايقة, ثم توالت الليالي والمواويل من المطرب الصاعد احمد بنجر. ومضت ساعات الليل وليلة الانس منصوبة, ثم سمعت الهرشموخلر يحاول محادثة البواب مستفسرا في استنكار عن هذه الجريمة التعذيبية البشعة, فقلت له ان هذا ليست جريمة ياسيدي شموخلر, ولكن من عاداتنا الحميدة ان نشارك بعضنا البعض في الافراح والمآتم بالسماع الميكروفوني, ثم لا تحاول الاستعانة بالشرطة كما تنوي ان تفعل, فإننا هنا في الجيزة, وهذا الفرح خارج اختصاص شرطة الجيزة, لانه في شبرا وهي بعيدة جدا
فسألني الرجل التكنولوجي عن المسافة بين الجيزة وشبرا بالهليكوبتر, فقلت له نصف ساعة- أي كلام طبعا- وهنا رفع حاجبيه في دهشة لان الصوت يصل في دوي رهيب, فشرحت له ان من شروط الزواج عندنا ان يتوافر فيه ركن العلنية وان يعرف كل الناس في الجمهورية ان حسن قد تزوج من نعيمة, ولهذا يقيم اصحاب الفرح محطات لتقوية الإرسال العوالمي حتي يعرف الناس من اسكندرية لأسوان ان نعيمة اصبحت مدام حسن.
*******
.. العشرة ماتهونش!
غير ان ماأسعدني حقا هو تلك المفاجأة التي صحوت عليها ذات صباح لأسمع شموخلر يغني في الحمام بصوت عال جدا وبالعربي, اذ راح يردد كالاسطوانة المشروخة هذه الكلمات الثلاث منغومة بلحنها: في يوم.. في شخر.. في سنة. في يوم في شخر في سنة!
وعرفت منه انه قد تعلم هذه الاغنية وغيرها من اصوات اجهزة الراديو التي تترامي اليه من عند الجيران. وحمدت الله ان شموخلر قد تأقلم واصبح واحدا منا ولم يعد مخلوقا نشازا بيننا, فهو مثلا كان قبل ذلك يسبب الكثير من المشاكل مع الباعة الجائلين الذين كان يعتبرهم مقلقين للراحة, وقد شرحت له ان مايردده الباعة الجائلون هو تعبيرات صوتية غنائية كلها حب وغزل, فالانسان المصري الذي عاشر الزرع والثمر على ضفاف النيل من سبعة آلاف سنة, يطيب له ان يتغزل في الزرع والثمر بالصوت العالي وكعادته دائما في التعبير عن عواطفه.. اذ يتغزل مثلا في البامية مشيدا بقوامها: يارفيعة وحلوة يابامية, ويتغزل في القوطة: ياورد ياخد الجميل ياقوطة, ويتغزل في شباب ثمرة الخيار: ياخيار النيل ياصغير يالوبيا!
ولقد ادرك عندئذ شموخلر فداحة الخطأ الذي وقع فيه عندما اعتبر الباعة الجائلين مقلقين للراحة, حتى انه اصبح يطرب طربا شديدا عندما يعزف بائع البلح الامهات بصوته كونشرتو: ولاتين ولاعنب زيك يابير العسل, كما اصبح يغني في الحمام: يابير الاسل... يابير الاسل!
وعندما ذهب شموخلر الى المانيا في مهمة عمل وطالت غيبته سألت عنه زوجته فراو شموخلر فقالت لي ان حكما صدر عليه بالحبس لاقلاق راحة جيرانه!